بقلم: جو حمّورة
بيروت تايم. تخلّى الساسة اللبنانيون عن وظيفتهم وعن دورهم الأساسي، وباتوا هيئات إغاثية يفكرون في الظرف الحالي لا في المستقبل.
في بلدة عين سعادة المتنية، تنشط كنيسة سيدة الرجا” في إغاثة النازحين القادمين من الجنوب. على مقربة منها، تقوم بطريركية الروم الكاثوليك في الربوة المتنية بدور مماثل، إذ تتعاون مع منطقة المتن الشمالي في حزب “القوات اللبنانية” لتنظيم “يوم طبي مجاني للأهالي النازحين من الجنوب”.
في قضاء الكورة، تحوّل الحزب السوري القومي الاجتماعي إلى هيئة إغاثية، لكأنّه جمعية أهلية. انتهى زمن “قتال اليهود” واغتيال كل من لا يفكر مثلهم، وأصبح القوميون موزعي بطانيات وفرش، وموردي خزانات مياه للمدارس التي يسكن فيها النازحون. على المنوال نفسه تسير كل الأحزاب ورؤساء الطوائف المسيحية والإسلامية والدرزية.
في زمن الحرب في الجنوب اللبناني، تغيب الحياة السياسية في كل لبنان. يعمل الجميع، من أحزاب وسلطات دينية، في مجال الإغاثة، متناسين أنّ الأزمة الحالية التي يمرّ بها لبنان سياسية قبل كل شيء، ولا حل لها إلا في السياسة. فلا حركة سياسية “مبروكة” يقومون بها.
مبادرة البطريرك الماروني بشارة الراعي، مع جملة رؤساء الطوائف، في عقد قمة روحية، انتهت دون أثر حقيقي، بعدما تبنت مواقف فاترة وسطية ورمادية ترضي كل المشاركين فيها. حتى المفتي الجعفري الممتاز، الشيخ أحمد قبلان، الذي كان يدعو إلى “حل سياسي” ويتهجم على الصيغة والتركيبة اللبنانية كل يوم أحد، ويدعو إلى تغليب المسلمين على المسيحيين وتغيير النظام السياسي، تحوّل إلى أشبه بناشط مدني لطيف، قائلاً الأحد الماضي: “كل الشكر للإحتضان المسيحي واللهفة الدرزية والحرارة السنية العلوية وغيرها، ودَيْن هذه الأيام كبير جداً”.
كذلك، لم تكن مبادرة حزب القوات اللبنانية من خلال لقاء “معراب 2” موفقة جداً. صحيح أن اللقاء رفع السقف السياسي وتخطى بمطلبه القرار الدولي 1701، إلى حدود القرارين 1559 و1680، إلا أنّ الحضور السياسي والنيابي المنوّع الهزيل في اللقاء، وعدم تلاقي دعوته مع قوى محلية أو دولية أخرى، جعل اللقاء دون أثر كبير.
هَجَر الجميع السياسة، فيما بعض النواب والوزراء لم يظهروا على شاشة التلفاز حتى. ماذا قدّم النواب على الصعيد السياسي في الفترة الحاضرة؟ أي مبادرة سياسية لحلّ جدّي أطلقها أي حزب؟ ماذا يفعل الناشطون الحزبيون الآن سوى إغاثة الضحايا أو التغريد على موقع X؟
في ظلّ غياب السياسة الحقيقية والجدية، تتحوّل الحياة السياسية إلى مجرد صورة شكلية بلا مضمون فعلي. إنّ الأزمة الحالية في لبنان هي، قبل كل شيء، أزمة سياسية تحتاج إلى رؤية وحلول سياسية جذرية، وليس فقط إلى مبادرات إغاثية أو حملات تضامنية، رغم أهميتها على الصعيد الإنساني.
ما هي رؤية الأحزاب للبنان بعد نهاية الحرب؟ وكيف يمكن المساهمة في إيقافها؟ ما مشروعهم لاستنهاض البلاد؟ ماذا عن إعادة الإعمار؟ هل لا يزال النظام اللبناني صالحاً وقابلاً للحياة؟ من سيملأ الفراغ السياسي والاجتماعي الذي سيتركه تقهقر “حزب الله”؟ ماذا عن الانتخابات الرئاسية؟ من سيحمل لواء تحرير الجنوب مجدداً من إسرائيل؟ وكيف؟ أي عمل جدي قد تم لإبعاد التدخل الإيراني في الشأن اللبناني؟ هذه جملة أسئلة يفترض أن يتناوب المسؤولون على الإجابة عنها وإيجاد حلول لها.. لكن لا حياة لمن تنادي!
إنّ هذا الهَجر للسياسة يعكس فشلاً في تحمل المسؤولية العامة، ويساهم في تأجيج حالة من الجمود واليأس لدى الناس الذين باتوا يشعرون بأنّ لا أحد يمثل مصالحهم أو يفكر في مستقبلهم. الكل منشغل بمشاريع إغاثية ومبادرات تكتيكية قصيرة المدى، بينما الوطن يتألم تحت وطأة انهيار اقتصادي، نزوح مليون شخص، تدمير المدن وتفخيخ قرى بأكملها جنوب لبنان وجعلها غير قابلة للحياة.
إنّ غياب السياسة بمعناها الحقيقي، أي السعي لتحقيق المصلحة العامة وإيجاد حلول للمعضلات الراهنة، ليس فقط خطأ استراتيجياً، بل هو خيانة للناس الذين انتخبوا هؤلاء المسؤولين لتمثيلهم. عندما تتخلى الطبقة السياسية عن دورها الأساسي، تترك المواطن وحيداً يواجه مصيره.
وفي وقت تُعتبر فيه السياسة المحرك الأساسي لأي تغيير أو إصلاح حقيقي، يتحول لبنان إلى ساحة لكل شيء إلا السياسة. يصبح الناس رهائن لظروفهم اليومية، ويفقدون الثقة بمؤسسات الدولة وبقدرة القادة على تحسين أوضاعهم. إنّ غياب السياسة هنا لا يعني فقط عدم وجود حلول، بل يفتح المجال أمام تفاقم الأزمات وتثبيت حالة الفوضى، مما يعرقل أي محاولات لإعادة بناء دولة حقيقية تعكس طموحات شعبها.
في النهاية، لبنان بحاجة إلى قادة يتحملون المسؤولية ويقدّمون رؤية واضحة للحاضر والمستقبل. قادة مستعدون للعودة إلى العمل السياسي الجاد بعيداً عن الشعارات الرنانة وتوزيع علب الحليب وحفاضات الأطفال على النازحين.