الإثنين, سبتمبر 16, 2024
17.1 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

مقاربة إشكالية الإيفاء في ظلّ تدنّي القيمة الشرائية للّيرة اللبنانية. بقلم د. عبده جميل غصوب

بقلم الدكتور عبده جميل غصوب، دكتور في الحقوق، بروفسور لدى كليات الحقوق، محام بالاستئناف لدى نقابة المحامين في بيروت، مستشار قانوني في الإمارات العربية المتحدة ـ دبي، خبير قانوني دولي معتمد لدى عدة منظمات قانونية دولية، كاتب قانوني وباحث.

يتمثل التعويض البدلي في إدخال قيمة مساوية للضرر الذي أصاب الضحية، في ذمتها المالية؛ فلا نعود في معرض ” محو ” الضرر، بل في معرض “ تعويضه “. يكون التعويض عموماً مبلغاً من المال؛ فالمال وحده له قيمة بدلية تسمح بالتعويض عن الضرر الذي أصاب الضحية، لأنه يفسح أمامها مجال استبدال الخسارة التي أصابتها، بحرية مطلقة، إذ إن المال وحده كفيل بالتعويض عن الخسارة. ويجوز أن يكون التعويض مبلغاً من المال يُدفع دفعة واحدة، أو دخلاً مدى الحياة Rente viagère .

يرتبط حجم التعويض بحجم الضرر وليس بفداحة الخطأ، الذي يجب ألّا يؤثّر على كمية التعويض، إذ إنه لا يشكّل عقاباً لمسبب الضرر، بل تعويضاً للضحية مساوياً للضرر الذي أصابها.

إن مبدأ حق الضحية في تعويض يغطي كامل الضرر، هو الذي يحدّد التاريخ الذي يجب أن يتوقف عنده القاضي لتحقيق هذا التقدير للتعويض. فالمسألة ترتدي أهمية قصوى عندما يتبدل الضرر سواء في عناصره الداخلية المكوّنة له ( تحسّن أو تدهور حالة المصاب مثلاً)، أو في قيمته المحددة بالعملة الوطنية أو الأجنبية.

إن تدني القيمة الشرائية للنقد الوطني في لبنان منذ أواخر العام 2019 تسبّب في إشكاليات كبيرة لم تجد حلّاً لها لغاية تاريخه، حسبما يقف القاضي في تحديده للضرر بتاريخ وقوعه أم بتاريخ إصدار حكمه، حيث يتغيّر حجم التعويض بصورة هائلة. وإذا كان متوقعاً أن الضرر سيتغيّر سواء في عناصره المكونة dans ses éléments intrinsèques أو في قيمته، فهل يمكن للقاضي أخذ ذلك بعين الاعتبار لتحديد قيمة العطل والضرر؟

أولاً: تبدّل الضرر قبل صدور حكم القاضي:

يمكن أن يتبدّل الضرر في عناصره الداخلية  dans ses éléments intrinsèques منذ تاريخ تحققه. فقد ينخفض الضرر، كأن يتحسن حال الضحية، وهنا على القاضي أن يأخذ ذلك بالاعتبار؛ فإذا كانت الإصابة قد سببت للضحية عطلاً دائماً عن العمل بنسبة 100%، ثم انخفضت هذه النسبة إلى 50% خلال عام واحد، يجب على القاضي احتساب التعويض استناداً إلى عطل دائم بنسبة 100% خلال عام واحد و50% خلال الأعوام التالية؛ فإذا لم يقف عند تاريخ حدوث الحادث ويحتسب التعويض بالاستناد إلى عطل دائم بنسبة 100% فقط لعام واحد دون الأعوام الأخرى التي استقر فيها الضرر على نسبة 50%، يكون قد أصلح ضرراً غير حاصل [1].

قررت محكمة النقض الفرنسية أن القاضي يجب أن يتوقف عند تاريخ تحقق الضرر في الحالة التي يتضاءل فيها الضرر في عناصره الداخلية dans ses éléments intrinsèques. ولكن يجب أن يكون ذلك عائداً إلى سبب ليس متعلقاً بواقعة تحقق الضرر [2]. هذا الموقف لا يمكن تعميمه؛ فإذا توفيت الضحية، مثلا، خلال المحاكمة، لسبب لا علاقة له بالحادث، على القاضي أن يأخذ هذه الواقعة بالاعتبار وأن يعدَّل في عناصر الضرر[3].

في الحالة التي يزيد فيها حجم الضرر، مثلاً، عند ازدياد حالة الضحية سوءاً، على القاضي أن يأخذ بالاعتبار هذا التبدل في العناصر الداخلية للضرر؛ وإلّا فإن الضحية لن تنال تعويضاً عن كامل الضرر الذي أصابها [4]. فإذا أدّت جراح الضحية إلى وفاتها، على القاضي مواجهة النتائج، سواء أكان الضرر قد تفاقم أو تضاءل في هذه الحالة [5].

لكن، وهنا الأهم، فقد لا يتبدل الضرر في عناصره الداخلية dans ses éléments intrinsèques، بل في قيمته المادية المعبّر عنها بالنقود.

وهذا ما هو مطروح حالياً في لبنان، بعد تدهور القيمة الشرائية للنقد الوطني بدءاً من أواخر العام 2019. فقيمة الضرر تفاقمت بعد انخفاض القيمة الشرائية للنقد الوطني. على سبيل المثال، لو افترضنا أن بناء تعرّض للحريق بسبب إهمال أحدهم، وكان يساوي بتاريخ الحريق مئتي ألف ليرة لبنانية؛ وأصبحت قيمته بتاريخ الحكم مئتي مليون ليرة لبنانية؛ فهل يحدّد القاضي العطل والضرر اللاحق بصاحب البناء بمئتي ألف ليرة لبنانية أو بمئتي مليون ليرة لبنانية؟ إن المشكلة ذاتها قد تبقى مطروحة إذا كان الايفاء سيحصل بالعملة اللبنانية في حين أن التخمين حصل بالعملة الأجنبية وتحديداً بالدولار الأميركي، خصوصاً وأن مسألة حق المدين بإيفاء دينه بالعملة الوطنية بات مسلّماً به.

ولكن المشكلة التي ما زالت عالقة هي على أي أساس سعر صرف سيتم الإيفاء؟ بعد أن اعتمدت محكمة النقض الفرنسية تاريخ حصول الضرر لتحديد التعويض، عادت واتجهت نحو اعتماد تاريخ إفهام الحكم؛ ففي قرار لها صادر عن غرفة العرائض في 24 آذار 1942، بدّلت محكمة النقض الفرنسية اجتهادها، فحكمت على من تسبب بحريق البناء بالتعويض المساوي للضرر بتاريخ إفهام الحكم وليس بتاريخ حصول الضرر؛ وذلك بعد ازدياد قيمة البناء بفعل انخفاض القيمة الشرائية للنقد الوطني. هذا الحل سارت عليه لاحقاً الغرفة المدنية في محكمة النقض الفرنسية، في قرارها الصادر في 15 تموز 1943 [6]. هذا في المسائل الجرمية، أما في المسائل العقدية، فبقيت الأمور مناقشاً فيها، إلى أن أصدرت الغرفة المدنية في محكمة النقض الفرنسية، القسم التجاري، في يوم واحد هو 16 شباط 1954 ستة قرارات قضائية، اعتمدت فيها تاريخ صدور الحكم لتحديد قيمة الضرر[7].

يجب توضيح هذه الصيغة في الاجتهاد القضائي إذ من الأفضل عدم القول أن التعويض يتم تقديره بتاريخ صدور الحكم، بل القول أن التعويض يجب أن يحتسب بتاريخ صدور آخر حكم قضائي فاصل بأساس النزاع، أي تاريخ صدور قرار محكمة الاستئناف الناظرة بالدعوى، حيث يصار إلى تفحّص، ليس فقط التبدلات الداخلية في عناصر الضرر، بل أيضا التبدلات الحاصلة في قيمته Dans sa valeur [8].

تمّ توجيه ثلاثة انتقادات إلى هذا الاجتهاد:

إن ازدياد حجم الضرر، ليس معزوّاً إلى خطأ المسؤول عن تسببه، بل إلى انخفاض القيمة الشرائية للنقد الوطني، فلا يجب تحميل المسؤول عن الضرر الفرق الناشىء عن الانخفاض المذكور طالما هو ليس مسؤولاً عنه. ولكن، يجب التوضيح بأنه لا يوجد ضررين: ضرر أول منسوب إلى خطأ المسؤول عن الضرر ومساوٍٍ لقيمة الضرر بتاريخ حدوثه، وضرر ثانٍ عائد إلى انخفاض القيمة الشرائية للنقد الوطني؛ بل هناك ضرر واحد هو خسارة المبنى بالحريق، وهو لم يتبدّل في عناصره الداخلية dans ses éléments intrinsèques، بل فقط في قيمته. وهذا الضرر واجب التعويض عنه بالكامل من قبل المسؤول عنه، أي الذي تسبب بحرق البناء بكامله، الذي هو تالياً مسؤول عن كامل الضرر الذي أصاب البناء، وملقى على عاتقه واجب التعويض الكامل عن كامل الضرر الذي أحدثه. إن تقدير قيمة التعويض بتاريخ صدور الحكم، مفاده أن المادة 262 موجبات وعقود تنص “ أن التعويض في حالة التعاقد لا يشمل سوى الأضرار التي كان يمكن توقعها” وهذا ما يدفعنا إلى التأكيد بأنه في مجال المسؤولية الجرمية، يجب تحميل المدين المسؤولية عن قيمة الضرر الناشئة عن تدني القيمة الشرائية للنقد الوطني.

أما الانتقاد الثاني لتقدير قيمة التعويض بتاريخ صدور الحكم، فمفاده أن المادة 262 موجبات وعقود تنص ” أن التعويض في حالة التعاقد لا يشمل سوى الأضرار التي كان يمكن توقعها عند إنشاء العقد …”؛ وأن الضرر الناشىء عن انخفاض القيمة الشرائية للنقد الوطني، لم يكن بالإمكان توقعه عند التعاقد. إن قاعدة اقتصار التعويض على الأضرار التي كان يمكن توقعها عند إنشاء العقد تعود جذورها إلى القانون القديم [9]، فيرى فيها Dumoulin [10] تفسيراً للقيود التي كانت معروفة في القانون الروماني، بينما يبرزها Domat et Pothier   كمبدأ عام [11]. تبرّر هذه القاعدة بالنيّة المفترضة للمتعاقدين حيث أن أياً منهم لا يتعاقد إلّا في إطار توقعه ما سيرتب له العقد من حقوق وعليه من التزامات. فلا يمكن اعتبار أنه يلزم نفسه خارج إطار الأضرار المتوقعة التي قد تنشأ عن العقد، لأن المادة 262 موجبات وعقود تشكّل “سقفاً” لمسؤولية المتعاقد [12]. فالقاعدة محصورة في الحقل القصدي ولا تطبّق في الموجبات التقصيرية وشبه التقصيرية Obligations délictuelles et quasi délictuelles. فبينما ترتبط الالتزامات العقدية فقط بإرادة الفرقاء التي تحدّد مدى التزاماتهم المتوقعة، نجد بالمقابل أن المدين تقصيرياً Le débiteur délictuel يلتزم رغماً عن إرادته؛ فتكون إرادته قاصرة عن تقليص التزامه Restreindre son obligation.

فما هو إذن هذا الضرر غير المتوقع الذي لا يؤدي إلى إلزام المدين به؟ إن المدين ليس مسؤولاً عن الضرر غير المتوقع في سببه imprévisible dans sa cause، في الحالة التي لا يكون فيها ممكناً أن يتوقع، عند توقيع العقد، أن عدم التنفيذ سينشأ عنه ضرر من هذه الطبيعة Un dommage de cette nature. في هذه الحالة، لا يمكن للدائن إلزام المدين بالتعويض عن هذا الضرر غير المتوقع. ولكن قد يكون الضرر متوقعاً في سببه  prévisible dans sa cause، وغير متوقع في نصابه imprévisible dans sa quotité: هذه هي الحالة التي يمكن فيها توقع وقوع الضرر ولكن ليس بالحجم الذي وقع فيه. فهل يكون المدين مسؤولاً عنه في هذه الحالة ؟

يستبعد الاجتهاد أي ضرر غير متوقع سواء في سببه أم في نصابه: فلا يكون المدين مسؤولاً سوى عن النصاب المتوقع من الضرر .Le débiteur n’est tenu que de la quotité prévisible du dommage [13]. إن إمكانية توقع سبب الضرر ونصابه يتم تقديرها عند توقيع العقد [14]. فلا يهمّ إذا كان الضرر غير ممكن توقعه عند توقيع العقد، ثم أصبح ممكناً توقعه لاحقاً، لأن العبرة هي لإمكانية توقع الضرر “عند توقيع العقد“. وإن “إمكانية التوقع” ينظر إليها بصورة موضوعية وليس شخصية  in abstracto؛ تماماً كما ينظر إلى الخطأ. فالمعيار الذي يجب الاستناد إليه هو معيار “الأب الصالح” والضرر الممكن توقعه هو الضرر الذي يكون سببه ومداه ممكناً توقعه من إنسان متيقظ وحذر prudent et avisé وفي ذات الظروف المحيطة به.

ولا يجب أن نغفل دور الإنصاف الذي طالما تذهب إليه المحاكم، فبين ضحية لا ينسب إليها أي خطـأ وبين مرتكب الخطأ المفضي إلى الضرر الناشىء عن تدني القيمة الشرائية للنقد الوطني، تذهب المحاكم في قراراتها إلى تحميل الضرر لهذا الأخير، عملاً بقاعدة الإنصاف في الحلول القضائية، المكرّس تشريعياً في لبنان بنص المادة 221 موجبات وعقود التي جاء فيها: “إن العقود المنشأة على الوجه القانوني تلزم المتعاقدين. ويجب أن تفهم وتفسّر وتنفّذ وفقاً لحسن النية والإنصاف والعرف”.

لقد عانى المقترض بالعملة الأجنبية في عقود القرض المصرفية في لبنان كثيراً من جراء الضرر الذي لحق به بسبب تدني القيمة الشرائية للنقد الوطني، فهل يمكننا انطلاقاً من المادة 262 موجبات وعقود مقاربة حلّ ما؟

في هذا الخصوص، نبدي ما يلي:

ـ إن انخفاض القيمة الشرائية للّيرة اللبنانية أحدث “ضرراً ” بالمعنى القانوني للكلمة.

ـ اذا كان صحيحاً أن الانخفاض المذكور ألحق ضرراً فادحاً بالاقتصاد الوطني ككل، وانعكس ضرراً على كل فرد ومؤسسة لبنانية والمصارف واحدة منها، إلّا أن الصحيح أيضا أنه، على مستوى الإيفاء، لا يمكن للمصرف أن يدّعي أي ضرر طالما أنه لا يفي المودعين حقوقهم بسعر الصرف الحقيقي للدولار الأميركي، بل بأسعار متفاوتة بعيدة كل البعد عن السعر الحقيقي. وبالتالي إن قاعدتي المساواة والإنصاف تفرضان عليه ان يعامل مقرضيه بذات الطريقة التي يعامل بها مودعيه، فطالما أنه يوفي هؤلاء بعملة محددة على سعر صرف محدد، فعليه أن يطالب مقرضيه بالإيفاء بذات العملة.

ـ لا يمكن إطلاقاً اعتبار المقترض (كما المودع) مسؤولاً عن الضرر الناشىء عن تدني القيمة الشرائية للّيرة اللبنانية. ولكن بالمقابل ليست المصارف مسؤولة وحدها عن هذا التدني؛ بل هي شريكة في مسؤولية تقصيرية مع مصرف لبنان والدولة اللبنانية (أو السلطة الحاكمة) عن “تبخر” الودائع؛ وبالتالي لا يمكن للمصرف “تحييد ذاته عن إطار المسؤولية التقصيرية  الناشئة عن “تبخر” الودائع، إذ إنه مسؤول بالتكافل والتضامن مع مصرف لبنان والدولة اللبنانية (أو السلطة الحاكمة).

ـ لا يمكن إطلاقاً اعتبار المقترض في وضع يمكّنه من توقع الضرر الناشىء عن تدني القيمة الشرائية لليرة اللبنانية عند توقيع عقد القرض المصرفي، انطلاقاً من المعيار الموضوعي in abstracto المحكى عنه أعلاه، و”الأب الصالح” لا يمكنه أن يتوقع ما حصل وأدّى الى انهيار قيمة النقد الوطني بالصورة الدراماتيكية التي حصل فيها.

بالمقابل، فإن المصارف الممتهنة، كانت في وضع يمكّنها من توقّع “الكارثة” التي أدّت إلى انهيار قيمة النقد الوطني ، عبر ايداعها الجزء الأكبر من ودائعها في مصرف لبنان وعبر إقدام هذا الاخير على منح الدولة اللبنانية الدين تلو  الآخر” بسخاء ما بعده سخاء“! مخالفاً بذلك قانون النقد والتسليف.

وبالتالي نرى أن المقترض ليس ملزماً سوى بإيفاء ديونه للمصرف الدائن بذات سعر الصرف وبذات الطريقة التي يفي بها المصرف مودعيه. وأن الأضرار الناشئة عن تدني القيمة الشرائية للنقد الوطني لا يمكن تحميلها للمقترضين بالاستناد إلى المادة 262 موجبات وعقود.

إن الانتقاد الثالث الموجّه إلى قاعدة تحديد الضرر بتاريخ إصدار الحكم، هو مبدأ “الإسمية”   Le principe du nominalisme  الذي بموجبه، اذا حصلت زيادة أو حصل انخفاض في قيمة الشيء قبل الإيفاء، فإنه يقع على المدين عبء إيفاء الشيء ذاته. هذا المبدأ يضع على عاتق الدائن عبء خسارة قيمة الشيء بسبب انخفاض قيمته.

ولكن هذه القاعدة لا يمكن إعمالها  في عقود القرض[15]، لأن تطبيقها ينحصر بالدين المتمثل بقيمة القرض الأساسية ولا يتعداها إلى الدين الناشىء عن الضرر الذي سبّبه انخفاض القيمة الشرائية للنقد الوطني، لأن التعويض البدلي، حسب نص المادة 252 موجبات وعقود، “يقوم مقام تنفيذ الموجب عينا“، فيجب إذن أن يغطي كامل الدين، ولأنه حسب نص المادة 262 موجبات وعقود “يجب أن يكون… معادلًا تماماً للضرر …”.

غير أن هذه القاعدة يمكن تصحيحها كما أسلفنا أعلاه بالقاعدة المنصوص عنها في المادة 262 موجبات وعقود، التي لا تلزم المدين سوى بالضرر الذي كان ممكناً توقعه عند توقيع العقد المصرفي. فلا يمكن اعتبار الضرر الناشىء عن تدني القيمة الشرائية للنقد الوطني، كان ممكناً توقعه من المقترض عند توقيعه لعقد القرض المصرفي ، بينما يمكن اعتبار أن المصرف كان في موقع يسمح له بتوقع ذلك، ولكنه لا يتحمل وحده المسؤولية هنا، بل بالتكافل والتضامن مع مصرف لبنان  والدولة اللبنانية على أساس التضامن في المسؤولية التقصيرية، الناشئة عن فعل جرمي.

ثانيا: تبدل الضرر بعد صدور حكم القاضي:

إذا كان القاضي ملزماً بالأخذ في الاعتبار تبدّل الضرر في عناصره الأساسية المكوّنة له أو في قيمته؛ فهل هو ملزم بالأخذ في الاعتبار هذا التبدّل عندما يكون جائز الوقوع مستقبلاً؟

تنص المادة 134، فقرة 4 موجبات وعقود: “وفي الأصل أن الأضرار الحالية الواقعة تدخل وحدها في حساب العوض، غير أنه يجوز للقاضي بوجه الاستثناء أن ينظر بعين الاعتبار إلى الأضرار المستقبلة إذا كان وقوعها مؤكداً من جهة، وكان لديه من جهة أخرى الوسائل اللازمة لتقدير قيمتها الحقيقية مقدماً“.

كما تنص المادة 264 موجبات وعقود أنه “يمكن الاعتداد بالأضرار المستقبلة على الشروط وعلى القياس المنصوص عنها للتعويض المختص بالإجرام في المادة 134 فقرتها الرابعة“. فالأضرار المستقبلة يجوز التعويض عنها على وجه الاستثناء إذا كان وقوعها مؤكداً من جهة، وكان لدى القاضي من جهة أخرى، الوسائل اللازمة لتقدير قيمتها الحقيقية مقدماً [16].

فإذا رأى القاضي أن الضرر معرّض، بصورة أكيدة، للتفاقم مستقبلاً في عناصره المكونة الأساسية aggravation du prejudice dans ses éléments intrinsèques؛ كتفاقم حالة العجز في الضحية، فيمكنه تحديد قيمة الضرر المناسب. وكذلك يمكنه أن يفعل الشيء ذاته إذا تأكد من تحسّن حالة الضحية مستقبلاً.

على عكس ذلك، فإن زيادة قيمة الضرر الناشىء عن تدني القيمة الشرائية للعملة اللبنانية، هي غالباً متوقعة souvent prévisible، ولكنها ليست أبدا مؤكدة n’est jamais certaine .

ولكن هذا لا يعني أن القاضي لا يمكنه الأخذ بالاعتبار هذا التدني المتوقع وغير المؤكد، إذ تتوفر له وسيلة لجعل التعويض متناسباً مع القيمة الشرائية لليرة اللبنانية، مؤمّناً بهذه الطريقة للضحية تعويضاً يكون دائماً مساوياً لضررها المستقبلي؛ هذه الوسيلة هي إلباس التعويض المحكوم به على الملزم بالإيفاء، شكل الدخل مدى الحياة بعد ربط الدخل المذكور بمؤشر ما، قد يكون مؤشر غلاء المعيشة أو المعدل الوسطي للأجر، الخ.(Le paiement d’une rente viagère indexée).

فإذا كانت الضحية مصابة، مثلاً، بعطل دائم أقعدها كلياً عن العمل، فإنها بهذه الطريقة تكون مضمونة بتلقي كل سنة مبلغاً من المال مساوياً للأجر الذي كانت ستتقاضاه لولا إصابتها من جراء الحادث [17].

بالمقابل، إن تقرير دفع التعويض للضحية دفعة واحدة، يكون أحيانا خطراً للضحية، فقد يؤدي إلى تبديده أو إلى استثماره بصورة خاطئة. كما أن التعويض بالصورة المذكورة قد لا يكون عادلاً تجاه المسؤول عن الضرر، خصوصاً إذا كانت مسؤوليته غير ناشئة عن خطأ ارتكبه بالمعنى التقليدي للكلمة (إذا كان حارساً للشيء، أو مرتبطاً عقدياً بموجب نتيجة Obligation de résultat، رتّب بذمته ديناً بدون أن يكون مرتكباً أي خطأ، بل بمجرد عدم تحقق النتيجة التي التزم عقدياً بتحقيقها) أو إذا توفيت الضحية بعد انقضاء وقت قصير على صدور الحكم لها بالتعويض الذي قبضته دفعة واحدة، ولم يكن لسبب الوفاة أي علاقة بالحادث الذي توجّب التعويض لها على أساسه.

وفي أي حال من الأحوال، فإنه ليس مؤكداً أن مسبب الضرر باستطاعته دفع قيمة التعويض دفعة واحدة، حتى ولو عمد إلى تصفية كل موجوداته، التي قد لا تكفي لتأمين كامل المبلغ المطلوب منه. بينما بالمقابل يكون أكثر ملائمة له، تسديد الدين المتوجب بذمته على دفعات دورية ومتتالية، كدخل على مدى الحياة للضحية.

إن الدخل مدى الحياة Rente viagère هو مؤسسة قانونية منظمة بقانون الموجبات والعقود (المواد من 1028 الى 1034) وهو بحسب تعريف المادة 1028 ” عقد بمقتضاه يلزم شخص (يقال له المديون بالدخل) أن يدفع لشخص آخر (يقال له دائن الدخل) مدى حياته أو حياة شخص آخر أو عدّة أشخاص مرتباً أو دخلاً سنوياً مقابل بعض أموال منقولة أو غير منقولة يجري التفرغ عنها وقت إنشاء موجب الدخل“.

إن المشترع اللبناني حدد “الدخل مدى الحياة”  كثمن لقاء تفرّغ عن أموال منقولة أو غير منقولة. ولكن إذا لم يكن هناك نص خاص يجيز صراحة دفع التعويض للضحية على صورة “دخل مدى الحياة” مرتبط بمؤشر ما كما بيّناه أعلاه، فإنه لا يوجد أي نص يمنع القاضي من الحكم به في مجال المسؤولية المدنية، في حين أن المشترع يبيح له إلباس الثمن في عقود التفرغ شكل الدخل مدى الحياة؛ فعملاً بالقواعد العامة المعمول بها في القانون، إن “الأصل هو الإباحة والاستثناء هو المنع“. يبدو أن الحكم بالتعويض عن الأضرار الناشئة عن تدني القيمة الشرائية لليرة اللبنانية، ملائماً لفريقي النزاع؛ بل قد يبدو في بعض الحالات، مخرجاً مناسباً للأزمة التي نعاني منها منذ سنوات بسبب انهيار الاقتصاد اللبناني وتدني القيمة الشرائية للنقد الوطني. كما أن “ثقافة التقسيط” الناهضة من مؤسسة “الدخل مدى الحياة” قد تشكّل مخرجاً في علاقة المصارف مع بعض المودعين، لأن المبلغ الذي سيتم الاتفاق على دفعه يصبح إذّاك في متناول المصرف المدين abordable، فتتحسن الأمور لأن “ولادة” تشريع جديد يحكم الانهيار الاقتصادي والمالي، ويضع حلولاً تشريعية يبدو صعب المنال حالياً، بغياب “خطة تعافي اقتصادي” تبدو بدورها مستحيلة “الولادة” في ظل الأوضاع السياسية المعقدة والتي لا يبدو أي أفق قريب لتجاوزها في المدى المنظور.

إن محكمة النقض الفرنسية، وبالرغم من معارضة محاكم الأساس، انتهت الى اعتماد الدفع مدى الحياة كوسيلة للحد من تفاقم الضرر عند انهيار العملة الوطنية، فأصدرت غرفتها المختلطة، قرارين في 6 تشرين الثاني 1974، أجازت بموجبهما للقضاء “إلباس” التعويض المحكوم به صورة دخل مدى الحياة مرتبط بمؤشر ما [18].

ثالثا: مراجعة التعويض المحكوم به (أو إعادة النظر به) Révision de l’indemnité:

هل يمكن تعديل التعويض المحكوم به بقرار قضائي اكتسب قوة القضية المحكمة؟

يجوز للقاضي، في أي حال من الأحوال، تضمين قراره تعديلاً (أو إعادة نظر) بالقرار المحكوم به. كما يعود للضحية  أيضاً أن تحتفظ بحقها في طلب زيادة التعويض، في حال حصول أي تدني في القيمة الشرائية لليرة اللبنانية.

ولكن ماذا سيكون الحل، خارج إطار هاتين الفرضيتين؟

عندما يتضمن القرار القضائي أن التعويض (سواء أكان دفعة واحدة أو مقسّطاً على صورة دخل مدى الحياة) المحكوم به، يغطي ليس فقط الضرر الحاصل آنياً، بل الضرر المستقبلي أيضاً، فإن قوة القضية المحكمة تحول دون أي مراجعة (أو إعادة نظر) بالتعويض المحكوم به. ولكن غالباً ما تخلو القرارات القضائية من أي إشارة من هذه الطبيعة وبهذا الخصوص. فيقتضي  التمييز بين طلب زيادة التعويض المحكوم به كعطل وضرر بسبب تدني القيمة الشرائية للنقد الوطني، وبين طلب تخفيض التعويض المذكور.

ففي حال انصبّ طلب الضحية على زيادة التعويض المحكوم به بسبب انخفاض إضافي في القيمة الشرائية لليرة اللبنانية، يجب أن يستجاب إلى طلبها، بشرط أن يكون الضرر الإضافي المطالب بالتعويض عنه مختلفاً عن الضرر الذي فصل فيه القرار القضائي المطلوب تعديله (أو إعادة النظر به). ففي حالة تفاقم ضرر الضحية الناشىء عن الإصابة (أعور أصبح أعمى، مثلاً)، فالقرار القضائي لم يفصل سوى بالضرر الأول، ولم يتطرق إلى الثاني، لأن الواقعة الناشئة عنه المولدة للتعويض، لم تكن قد نشأت بعد حين اصدار القرار القضائي. ولكن برأينا ، لا يمكن للضحية المتضررة من تدنٍ إضافي في القيمة الشرائية لليرة اللبنانية، أن تطالب بتعويض إضافي، إذ لا وجود لأي ضرر جديد: يوجد فقط تبدل في قيمة الضرر المحكوم بتعويض عنه، دون المساس بعناصره المكونة [19].

ولكن في حال مطالبة مسبب الضرر بتخفيض التعويض المحكوم به، فإن دعواه تردّ [20]  إذ تصطدم بالضرورة بقوة القضية المحكمة، لأن الادعاء بأن الضرر المحكوم به أقل من الضرر الحقيقي، هو في حقيقته ادّعاء بأن القاضي أخطأ في تقدير الضرر، إذ قدّره بأقلّ من حقيقته؛ بينما في حالة تفاقم الضرر، لا توجد أي صعوبة، إذ يتم اعتبار التفاقم المذكور ضرراً مستقلاً عن الضرر الأساسي[21].

في الخلاصة، إن إبقاء التعويض الناشىء عن تدني القيمة الشرائية للنقد الوطني، وبغياب أي نص تشريعي طال انتظاره، متفلتاً من القواعد العامة التي ترعى المسؤولية بصورة عامة والتعويض البدلي بصورة خاصة، يخرجنا من الإطار القانوني الصحيح ويدخلنا في “متاهات وجهات النظر المتضاربة”  بعيداً عن القواعد القانونية التي يجب أن تسود الحلول القضائية.

في انتظار صدور قانون ينظم حالة الانهيار الاقتصادي والمالي طال انتظاره، بسبب غياب “خطة تعافي اقتصادي“، بعيدة المنال بغياب حل سياسي شامل للأزمة اللبنانية، تبدو العودة إلى القواعد القانونية العامة هي الحل.

 

https://hura7.com/?p=31594

المصادر

[1]  Civ. 23 déc. 1942, Gaz. Pal. 1943, 1, 97.

[2] Civ. 24 nov. 1942, Gaz. Pal. 1943, 1, 50.

[3] Civ. 2ème , 18 déc. 1996, Bull. Civ. II, nº 287, Rev. Trim dr. Civ., 1997, 440, obs. Jourdain.

[4] V. par ex. : Civ. 2ème , 4 oct. 1995, Resp. civ. Et ass. 1995, nº 354, Rapp. Civ., 2 ème, 3 oct. 1990, Rep. Civ. Et ass. 1990, nº 399 , Rev. Trim. Dr. Civ. 1991,

( ارملة تمكنت من تولي ادارة الشركة، مكان زوجها المتوفى )

[5]  بمعنى ان وفاة الضحية، الحاصلة لسبب لا علاقة له بالحادث، وسابق لتاريخ افهام الحكم ، تضع حداً لحالة العجز الحاصلة وتؤدي تاليا الى تخفيض قيمة الضرر.

[6] DA 1943, 81, JCP, 1943, II, 2500, 1re esp.,  et note Hubrecht; dans le même sens, par exemple , Crim, 28 juin 1977, Gaz . Pal. 1977, 2, 649.

[7]  D. 1954, 534 et note Rodière; Cf également : Civ. 1re civ. 27 janv. 1964, JCP 1964, II, 13636 et note P.E.

[8] Crim. 4 mai 1979, Gaz. Pal 1970, 1, 90; Cass. Ass. Plènière , 9 mai 1980, RGAT 1980, 533 et note Favre – Rochex, Rev. Trim. Dr. Civ. 1980, 574, obs. Durry ; Soc. 15 oct. 1981, Gaz. Pa l. 1982, pan. 106, obs. F; C. Civ., 2ème , 3 mars 1982, Gaz. Pal 1982, pan. 334, obs. F.C. ; Civ,, 2 ème ch., 3 mars 1982, pan. 334, obs. F.C.

[9] V. Mme Souleau, La prévisibilité du dommage contractuel, thèse Paris II, dactyl, 1979.

[10] De eo quod interest, nº 178.

[11]  Oblig. T. II, nºs 160 à 167.

[12] Com. 19 janv. 1993, Bull. Civ. IV, nº 24.

[13] Civ. 27 juin 1928, Gaz. Pal 1928, 2, 520; de cette règle exacte , la Cour de cassation, dans cet arrêt , conclut inexactement à l’ évaluation  du dommage au jour de se réalisation.

[14] Civ. 1re, 25 janv. 1989 , D. 1989. Somm. 337, obs. Aubert, JCP, 1989, II 21357 et note Paisant.

[15] Mazeaud, Obligations, théorie générale, Tome II, 1998, p. 739.

[16] Crim. 6 mai 1987, Gaz. Pal, 1988, somm 79, obs. Doucet ; Durry, obs. Rev. Trim. Dr. Civ. 1971, p. 639.

[17] Cf. H. Mazeaud, Les rentes “ flottantes “ et la réparation des accidents, in, Mazeaud, op. cit., Lecture II, p. 752 et suiv.

[18]  راجع اعلاه H. Mazeaud, lecture II,  السابق الاشارة اليه؛ راجع ايضا وفي ذات الاتجاه،

Civ. 2ème 17 avr. 1975, D. 1976, 152, et note Sharaf el Dine.

[19] من هنا فائدة التفريق بين الحكم بتعويض والحكم بنفقة، اذ ان هذا الاخير يبقى دائما قابلا للزيادة بفعل ارتفاع كلفة  المعيشة .

[20] Civ. (1). 7 mars 1911, D. 1918,1,57, sous-note a, Req. 30 déc. 1946, Gaz. Pal. 1947,1,153 ; Cass ; 2e civ ; 12 oct. 1972, 1974, 536 et note Malaurie, J.C.P, 1974, II, 17609 et note Brousseau ; contra : Paris, 11 mai 1968, Gaz. Pal 1968, 2, 118 ; Cpr. Crim. 4 déc. 1969, D. 1970, somm. 93 ; Paris, 10 oct. 1969, Gaz. Pal 1970, 1, 39 ; Civ, 2e , 5 oct. 1988, Resp. Civ. Et ass. 1988, III, p.8.

 

[21]  Cf Durry, obs. Rev. trim. Dr. civ. 1968, p. 730; M. Gendrel. Influence de la dépréciation monétaire sur le droit de la responsabilité civile, dans l’ouvrage publié sous la direction de M.J Carbonnier : influence de la dépréciation monétaire sur la vie juridique privée, 1961, Mme Pauffin de St. Morel, quelques aspects de la réparation du dommage corporel  LGDJ,  1966.

الأكثر قراءة