الأربعاء, مايو 21, 2025
14.5 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

إصدارات أسبوعية

18 أيار: مقاومة مدنية بالاقتراع لاستعادة هوية العاصمة

جريدة الحرة

الدكتور بشير عصمت، باحث وأستاذ جامعي في التاريخ الاجتماعي والسياسات العامة

بيروت ليست مجرد مدينة، بل هي رمزٌ حضاريٌّ تاريخيٌّ و ثقافي على ساحل المتوسط، ومرآةُ التحولات الكبرى في العالم العربي. فمنها انطلقت شرارة الحداثة، ومنها كانت أولى الصرخات ضد الاستبداد. لكنها اليوم تقف على حافة الانهيار بفعل تحالف القوى التي لم تتوقف عن نهشها منذ عقود، قوى رأت في بيروت غنيمةً لا مدينة، وفي مؤسساتها موارد للنهب لا أدوات للخدمة العامة.

أما السابع من أيار فهو ليس يوماً عادياً يمرُّ دون أثر في المدينة، بل هو تاريخٌ يعكس الانحدار الذي قاد لبنان إلى هذا المستنقع. ففي 7 أيار 2008، كان السلاح وسيلةً لإخضاع العاصمة وكسر إرادة أهلها. و7 أيار 2025، شهد حدثاً مكمّلاً بوجوه شبيهة وأدوات جديدة، حيث يجتمع زعماء الطوائف وقوى المال والإقطاع  لبناء تحالفات لإعادة السيطرة على  بيروت، لا كمدينة، بل كخريطة مصالح وعقارات.

هذه التحالفات التي تتباهى بالسيطرة على مؤسسات الدولة ومجالسها البلدية، لم تختر رئيساً لمجلس بلدية بيروت أكمل سنواته الأولى دون فضيحة فساد كبرى، ونادراً ما أكمل أحدهم ولاية كاملة. مشاريع تلزيم مشبوهة، استملاكات مغشوشة، رشاوى، وتغطية لمخالفات البناء في الملك العام. كلها أساليب معروفة في دفتر شروط الفساد. هؤلاء الذين سرقوا المدينة ونهبوا ثرواتها، ودمروا مرفأها وروّعوا أهلها، يأتون اليوم ليقولوا إنهم يريدون حكمها من جديد، بلا خجل ولا تردد، يطلبون الثقة من سكان العاصمة التي حوّلوا مرفأها إلى ركام، وطرقاتها إلى مستنقعات، وأحيائها إلى مزارع للنفوذ الشخصي والعائلي.

بينما يحاول هؤلاء إعادة فرض قواعد اللعبة ذاتها، يظهر المجتمع المدني في بيروت كقوة نقيضة، تسعى إلى استعادة المدينة لأهلها، بعيداً عن سلطة الفاسدين وناهبي المال العام. هؤلاء الذين يتعاملون مع بيروت كما لو كانت قبيلة بحاجة إلى شيخ أو لويا جيرغا لحل نزاعاتها، يقفون اليوم في مواجهة صورة أصيلة لبيروت، مدينة الشرائع والحرية والفكر.

وفي مساء السابع من أيار 2025، في الذكرى السابعة عشرة لهذا الحدث  الدموي اصطفّ العشرات في ساحة الشهداء، ساحة 17 تشرين، ليشهدوا ولادةَ “ائتلاف بيروت مدينتي 2025″، اللائحةِ المدنيّةِ الوحيدةِ التي تخوضُ المعركةَ البلديّة المقبلة في العاصمة بعد تسع سنواتٍ من الانقطاع عن الاقتراع. فترة كانت كافية ليتراكمَ الانهيارُ في حياة المدينة كلها، من البنى التحتيّة والخدمات، ويستشري الشعورُ بالعجز لدى السكّان. لا بدّ من الإشارة إلى أن برنامجُ لائحة “بيروت مدينتي” يتضمّن بُعداً اجتماعياً بارزاً هو حمايةُ الفئات الأكثر هشاشة من تبِعات السوق العقاريّ. فبعد انفجار المرفأ ازدادَت الإخلاءات وارتفعت الإيجارات، ما دفع شرائحَ من الطبقة الوسطى إلى الرحيل. لذلك تنصّ الخطةُ البلديّة على استخدام الصلاحيّات التنظيميّة لفرض نِسَبٍ إسكانية ميسَّرة في أيّ مشروعٍ كبير، ربطًا بتشريعاتٍ يعد نوابُ التغيير بتمريرها في المجلس النيابيّ.

إنّ المواجهة المقبلة  ليست فقط مع الفاسدين و التي  هي بديهية ، بل هي أيضاً مع فكرة المدينة نفسها. هل تعود بيروت حاضنةً للأفكار الحرّة والطاقات الشابّة، أم تتحول إلى كيانٍ مجزّأ، يحكمه سادة الطوائف والمال والميليشيات؟ إنها لحظة اختيار بين أن تكون العاصمة رمزاً للمدنية والتعددية، أو مجرد مقاطعة أخرى في إمبراطورية الفساد المستدام. لكن الأكيد أنه لا يمكن لبيروت أن تعود إلى الوراء، ولا يمكن لها أن تستمر كعاصمة بلا روح، فاقدة المعنى، ملاذاً للتبييض والكبتاغون، تُدار بمنطق الغلبة. إنها معركة لإعادة الاعتبار لمفهوم المدينة كفضاءٍ عامٍ مشترك، لا كملكيةٍ خاصة للأقوياء.

إن كل أنواع التضليل متوقعة. سيلصقون كذبة أو أكثر بمجتمع التغيير ورموزه، سيحكون عن مؤامرات، وسوروس، وسيبهرون الأعين بعناوين ماكرة، سيصدرون بيانات من جمعيات هزلية تدّعي تمثيل المودعين وتبرئ ذمة السارقين. سيحاولون إقناع الناس بأن السرقة شرعية وبأن المسؤولية تقع على عاتق الشعب لا الطبقة الحاكمة. ولكن للحقيقة وجه واحد يعرفه أبناء بيروت، وهو أن هذه المدينة لا تقبل الانحناء أمام الأكاذيب. يعرفون جيداً من سرق أموالهم، من رهن مستقبلهم، من هدم ميناءهم، ومن حوّل شوارعهم إلى متاريس فساد.

الثامن عشر من أيّار أكثرَ من موعدٍ انتخابيّ؛ إنّه استفتاءٌ على مفهوم المدينة نفسِه: فإمّا تستعيد بيروتُ دورَها التاريخيّ كمنارةٍ ثقافيّةٍ وتقدميّة، وإمّا تستمرّ في الغرق داخل حسابات القوى التي حكمتها بعقليّة المتعهّد والمرقِّع. وإذ يرفع “ائتلاف بيروت مدينتي 2025” شعار “بيروتُ مدينةٌ للعيش لا مَعبرٌ للموت”، يغدو الاقتراعُ فعلَ مقاومةٍ مدنيّة يختبر فيه البيروتيّون قدرتهم على قلب الطاولة.

إن المدينة التي صارت مرادفاً للأزمة الاقتصاديّة والانفجار والركود، تريد هذه المرّة مجلساً يضعها في صدارة أولويّاته، بدل أن يضعها على لوائح المحاصّصة الحزبيّة كما فعلت المجالسُ المتعاقبة.

إن الانتظارات التي وُضعت على عاتق قوى التغيير  كانت، في أغلبها، تعبيراً عن خيبة الناس من الأحزاب والنقابات والدولة.

اليوم، في هذا السياق تتوفر للمدينة – بيروت فرصة نادرة لتعيد رسم ملامح هويتها، لتكون مدينةً لكل أبنائها، تتسع لأحلامهم وطموحاتهم، بدل أن تكون ضحيةً لحسابات ضيقة ومصالح متضاربة. كل صوتٍ في هذه الانتخابات هو خطوة نحو استعادة المدينة، نحو إعادة الحياة إلى شوارعها، وإعادة الأمل إلى أهلها.

https://hura7.com/?p=52522

الأكثر قراءة